الأستاذ بجامعة يحيى فارس بالمدية.. الدّكتور رشيد مياد..

هــــــــــــذه مبـــــــــــــادئ وأبعــــــــــــاد بيــــــــــــان أوّل نوفمــــــــــــــبر

توفيق العارف

 

سلط الدكتور رشيد مياد الضوء على بيان أول نوفمبر التاريخي باعتباره “يمثل مرحلة مفصلية في تاريخ الجزائر، لما جاء به من مبادئ وقيم ذات أبعاد إنسانية وحضارية وحتى إعلامية، وأبرز – في مقال نشره بالمجلة المحكمّة “مصداقية” - القيم التي عمل مهندسو الثورة التحريرية المجيدة على تكريسها في البيان، ثم في مسار الكفاح المسلح الذي وصل بالثورة إلى تحقيق غاياتها، ويقول الباحث إن البيان النوفمبري تأسس على “الحرية والعدل والدفاع عن حقوق الإنسان، وهي في مجملها مبادئ نبيلة نصت عليها أعرق المواثيق والإعلانات العالمية التي تدعو إلى نبذ الاستعباد وترسيخ قيم المساواة بين بني البشر. وكان له دور كبير في ترسيخ قيم ومبادئ ثوابت الأمة الجزائرية”.



يقول الباحث في تقديم قراءته الحصيفة لبيان أول نوفمبر، إن “الثورة الجزائرية ومعها بيان أول نوفمبر لم تولد من العدم أو الفراغ، بل رُعِيت طفولتها بحضانة طويلة من المقاومات الشعبية، ونضال سياسي وطني استمر زهاء نصف قرن، وجاءت جبهة التحرير الوطني كمولود شرعي لها، وإطار مرجعي جامع لهذا الرصيد التاريخي الزاهر”، وأضاف مياد أن العمل التحرري الجزائري استلهم الدروس “من سنين الجمر التي عاشها الشعب الجزائري تحت غطرسة الاحتلال” ما يجعل من نوفمبر الثورة “نتيجة طبيعية ومنطقية، وخلاصة تاريخية مكثفة لكفاح طويل مرير ضد الاستعمار الفرنسي الاستيطاني”.
يقول الدكتور مياد: “إذا كان الاستعمار، قد أصيب بدهشة وصدمة من الانطلاقة الكبرى، فإن قادة الثورة ومخططيها الأوائل، حرصوا على أن تكون انطلاقة الثورة الكبرى محددة، وواضحة، مفهومة الأهداف والمطالب لدى الشعب الجزائري، والرأي العالمي حتى لا يكون لدى السلطات الاستعمارية، أي عذر في مقاومتها، أو امتناع من الاستجابة لمطالبها ولكي تتقطع عليها يد الرجعة، وتمنعه من محاولة تشويهها وتصوير أهدافها للرأي العام الدولي، بما يخالف الواقع والحقيقة”، ولهذا، يعدّ الباحث بيان أول نوفمبر “من أبرز نصوص الثورة ومواثيقها”، إذ حمل العديد من الأبعاد والخصائص والقيم التحررية والحضارية والدينية، وأضاف أن بيان أول نوفمبر 1954 مازال وسيظل محتفظا بقيمه إلى يومنا هذا.
تحريــر بيــان أوّل نوفمــبر
يؤكد الدكتور مياد أن بيان أول نوفمبر “يعتبر أول وثيقة ثورية صادرة عن جبهة التحرير الوطني، ويعد من وثائق الجزائر الحديثة التي حملت روح الثورة الجزائرية”، وسجل أنه “لم يصدر عن جهة إيديولوجية معينة وإنما جاء استجابة للوضع الذي أصبح لا يطاق في ظل السياسة الفرنسية المطبقة”، ثم يواصل قائلا: “إذا كان البيان إعلانا لاندلاع الثورة التحريرية، فإنه من جهة أخرى جدد مجموعة من الأفكار والنظم التي يجب أن يسير عليها الكفاح المسلح وتبنى وفقها الدولة الجزائرية، لذا كان واضحا في تحديد إيديولوجية الثورة، فالذين صاغوا البيان تربوا في أحضان حزب الشعب، وتشبعوا بأفكاره ومبادئه.
ويضيف الباحث أن نقاشات كثيرة أثيرت حولها حول ضرورة إعداد البيان بين القادة طيلة اجتماعاتهم التي عقدوها خاصة في الاجتماع الأخير 10 أكتوبر 1954، الذي تم فيه الفصل النهائي في المسودة المقدمة من قبل محرريه محمد بوضياف، ديدوش مراد، العربي بن مهيدي، ومصطفى بن بولعيد، وقال إن إعداده وتحديد مضامينه كان قد اتخذ على أساس مبدأ التشاور “نظرا لصعوبة القضية التي سيحملها، وما يتطلبه ذلك من صياغة إيديولوجية وسياسية مركزة”، وأضاف أن القادة المحررين للبيان، حددوا الأسباب والأهداف والوسائل والشروط، وكلفوا محمد بوضياف بتحريره في منشور، واتفقوا على اللقاء يوم 22 أكتوبر لمراجعة المنشور الذي سيحرره محمد بوضياف، وعندها استعان محمد بوضياف بالمناضل محمد العيشاوي الذي كان يعمل صحفيا بباريس لحساب مجلة موند أراب (العالم العربي) في كتابة البيان، فوافق العيشاوي على ذلك واجتمع عدة مرات مع محمد بوضياف عند المناضل عيسى كشيدة، فكان بوضياف يقوم بصياغة أفكار مستوحاة من برنامج حركة الانتصار للحريات الديمقراطية، ثم يقوم محمد العيشاوي بتركيبها في جمل مفيدة وهكذا كتب البيان.
وفي يوم 23 أكتوبر 1954 – يقول الباحث - اجتمعت لجنة الستة حيث ناقش الأعضاء آخر التحضيرات وقدم السيدان ديدوش مراد ومحمد بوضياف نص نداء جبهة التحرير الوطني، كما نوقشت قضية كتابة المنشور وعندها استدعى ديدوش مراد محمد العيشاوي مرة أخرى، فدخل إلى منطقة القبائل يوم 27 أكتوبر، وقام بسحب البيان.
مضمــون البيان
تضمن بيان أول نوفمبر 1954م التشخيص الدقيق والجواب الشافي والكافي لعلاج الوضع المأسوي الذي آل إليه الشعب الجزائري، ومن خلال الاطلاع الأولي على البيان – يقول الباحث – يتبين أنه متضمن لأربعة محاور رئيسية هي:
- الظروف والعوامل الظرفية التي أدت إلى صياغته وتقديمه كإعلان وبلاغ لاندلاع الثورة التحررية باسم جبهة التحرير الوطني.
- تحديد طبيعة الثورة وأهدافها ووسائل كفاحها وإطارها الوحدوي، مع تأكيد صعوبة المهمة وعظم المسؤولية، لكن النتيجة النصر آت لا محالة، وهو محور يرسم ويحدد المعالم الكبرى للدولة الجزائرية المستقبلية وأسسها الوطنية.
- إبراز طبيعة المعركة مع المستعمر الكولونيالي الإمبريالي، وإعلان شروط التسوية الممكنة معه، مع تقديم الضمانات الكافية لمصالحه المشروعة، الثقافية والاقتصادية، وكذلك لرعاياه من المستوطنين وحلفائه الآخرين من الحركي وغيرهم.
- إعادة الثورة إلى حضنها الطبيعي وهو الشعب الجزائري، كما تضمن البيان ديباجة عملت على توضيح أسباب نشره، والذهاب إلى العمل الثوري، وفي آخر البيان، طالبت جبهة التحرير الوطني من الشعب الجزائري مباركته للبيان، ودعم الثورة لتحقيق الحرية.
- أكد البيان على ضرورة كسب الرأي العام وتوحيده حول حركة التحرير الوطني، وهذا من خلال دعوة جميع الجزائريين إلى الكفاح المسلح، كما أشار البيان إلى تصفية الاستعمار باستعمال كل الطرق المتاحة بواسطة تعبئة الجماهير، وتدويل القضية الجزائرية بمساندة حلفائها التاريخيين وهم العرب وكل القوى المحبة للعدل. وأضاف البيان: «استمرار الكفاح بكل الوسائل إلى أن تتحقق أهدافنا وذلك طبقا للمبادئ الثورية ومراعاة للظروف الداخلية والخارجية». ويفهم من هذا النص – يقول الدكتور مياد - أن الوسائل الإعلامية ستكون في المقدمة، وستلعب دورا هاما وأساسيا في تحقيق وإنجاز هذه المهمة.
المبـادئ المؤسسة للبيان..
سجل الدكتور رشيد مياد أن البيان  تضمن جملة من المبادئ الواضحة التي جعلت الشعب الجزائري يلبي النداء ويلتحق بالثورة من أجل تحقيق الهدف الرئيسي ألا وهو الاستقلال الوطني، ولخصها كما يلي:
مبدأ الكفاح أو الدفاع عن الوطن:
كان بيان أول نوفمبر، واضحا في تحديد معالمه بدقة، انسجاما مع المبادئ الثورية الفاصلة، واعتبارا للأوضاع الداخلية، الخارجية، فإننا سنواصل الكفاح بجميع الوسائل حتى نحقق هدفنا.
لذا فإن اختيار الفكر الوطني للكفاح المسلح، هو ضرورة حتمية فرضها ذلك التناقض المتمثل في وجود الاستعمار الناكر للشخصية التاريخية والسياسية للشعب الجزائري وأن لا سبيل للتوفيق بين الرغبة في استعادة الشخصية الوطنية وتنميتها.
مبــدأ  الوحـــدة:
من خلال دعوته للوحدة الوطنية الداخلية (سياسيا واجتماعيا) وهو ما يتجلى لنا من التسمية الجديدة للحركة التي تقود النضال الثوري جبهة التحرير الوطني، ودعوة البيان كافة الأحزاب والحركات الجزائرية للانضمام إليها، ولذلك فلا غرابة أن نجد النداء يجدد مرة أخرى الأخذ بمبدأ المصلحة الوطنية قبل كل اعتبار، وأشار إلى ذلك بقوله: لهذا نكون قد وضعنا المصلحة الوطنية فوق كل الاعتبارات الشخصية»، وكذلك دعوته لتجميع وتنظيم الشعب الجزائري وتصفية الاستعمار، وهذا – يؤكد الدكتور مياد - يقودنا إلى القول بأن الفكر الثوري الجزائري هو فكر وحدوي، مدرك لأهمية الوحدة، وأهميتها التاريخية.
مبـدأ الحرية والديمقراطية
لا توجد حرية دون ديمقراطية، ولا ديمقراطية دون حرية، لذلك جاء الربط في نص بيان أول نوفمبر، وثيقا بين المبدأين فالديمقراطية هي مدينة الحرية، وإذا كان بيان أول نوفمبر قد أقر بالحرية الفكرية، فذلك لأن حرية التفكير من أهم مقومات الحريات الأساسية.
مبــدأ العدالــة
هذا المبدأ معبر عنه في وثيقة أول نوفمبر، في أكثر من عبارة، يقول الدكتور رشيد مياد، ولا أدل على ذلك ما جاء في فحواه “إعادة بناء الدولة الجزائرية الديمقراطية الشعبية:، معنى ذلك، أن الدولة تكفل لجميع أبنائها حقوقهم وواجباتهم دون تمييز عرقي أو ديني.
مبــدأ السلـــم
ولاحظ الدكتور رشيد مياد أن دعوة بيان أول نوفمبر إلى التفاوض لوقف الحرب، قد تضمن تصورا للحل السلمي وهذا دليل ضمني على إيديولوجية السلم لدى جبهة التحرير الوطني، في سبيل تحقيق الهدف السياسي العادل والمشروع، وهو ما يبعد تهم التعصب والتطرف عن الفكر الوطني.
الأبعـاد العامة لبيـان نوفمبر..
يعتبر محمد العربي الزبيري أن جبهة التحرير الوطني امتداد طبيعي وتاريخي وسياسي لإيديولوجية النجم، وقد تأسست – بحسبه - على توجهاته التي تبرز بوضوح في بيان أول نوفمبر كما يلي:
البـعــد السيــــاسي
ويهدف إلى استرجاع السيادة المغتصبة عن طريق الكفاح المسلح الذي يجب أن يتحول إلى انتفاضة عامة تضعف الجيوش المعتدية، وتخرب الاقتصاد الاستعماري وتفرض جو الحرب الساخنة على فرنسا فتنقاد إلى تفاوض كما حدده نداء الفاتح من نوفمبر سنة 1954.
وفي إطار هذا التوجه السياسي، دعت جبهة التحرير الوطني كافة التشكيلات السياسية إلى الإعلان عن حل نفسها رسمياً، والدفع بمناضليها إلى الالتحاق بالثورة، فرادى، وأكدت من خلال النداء الأول وفي مناسبات عديدة، أن التفاوض لا يكون إلا معها بصفتها قائداً للكفاح المسلح وممثلاً وحيداً للشعب الجزائري.
وكان قادة جبهة التحرير الوطني يطمحون بصدق وإخلاص، إلى استرجاع استقلال الجزائر، وذلك تماشياً مع إيديولوجية نجم شمال إفريقيا، وإيماناً منها بأن تلك هي الطريقة الوحيدة لقطع خط الرجعة مع أشكاله وألوانه.
 البعـد الاقتصـادي والاجتماعـي
ويرمي إلى استرجاع الأراضي المغتصبة وإخضاع مجالات الإنتاج والتسويق والاستثمار إلى التخطيط الذي يأخذ بعين الاعتبار واقع البلاد وإمكانياتها واحتياجات الجماهير الشعبية الواسعة.
وبواسطة هذا التوجه – يقول الباحث - كانت جبهة التحرير الوطني تسعى إلى تغيير هيكلة اقتصادية واجتماعية وضعها الاستعمار الاستيطاني
البعــد الحضــاري..
ويشمل مجالي الدين والثقافة انطلاقاً من مجموعة من الحقائق أهمها:
إن الاستعمار لاقى مقاومة بطولية دعامتها المسجد ومصدرها في غالب الأحيان، الزوايا التي كانت منتشرة عبر مختلف أنحاء البلاد، لأجل ذلك وجه الاستعمار ضربات قاسية إلى الدين من أجل تشويهه وتزييف تعاليمه وإغراقه في متاهات الشعوذة والدروشة، بينما أفرغ المساجد من محتواها الثوري الذي وجدت من أجله، وحول معظمها إلى كنائس، وذلك إذا سلمت من الهدم ولم تحول مادياً إلى مقرات لمؤسسات أخرى دينية أو اقتصادية أو سياسية أو عسكرية.
ويرى الباحث أن هذا الواقع التاريخي جعل الجزائر تلجأ إلى الدين وتخلصه من بعض ما علق به من شوائب، وفي ذات الحين ترتكز عليه لتزويد المجاهدين بالطاقة الضرورية لهم في مواجهتهم لأعتى قوة استعمارية تفوقهم عدة وعتادا، ولتعبئة الجماهير الشعبية الواسعة وتوعيتها بالوضع الجديد الذي يجب أن تتكيف معه حتى تتمكن من المشاركة الفعلية في معركة التحرير وبالفعل – يؤكد الباحث - فإن الذي يرجع بتأمل، إلى تاريخ ثورة نوفمبر يرى أن التكبير والترغيب في الشهادة قد أديا دوراً أساسياً في تثبيت العزائم وتقوية النفوس وتجنيد أغلبية المواطنين حول جبهة التحرير الوطني.
وقال الدكتور رشيد مياد إن الاستعمار كان يدرك أن شعباً بلا ثقافة شعب ميت، وأن الاحتلال الحقيقي لا يتم إلا عندما يقضي على ثقافة الشعب المعتدى عليه. فانطلاقاً من هذه القناعة عمدت السلطات الاستعمارية، إلى تجهيل الجماهير، وتزييف التراث الوطني وطمس معالم الثقافة ومصادرها، وبادرت إلى صنع ثقافة جديدة لا علاقة لها بواقع الجزائريين، ومثقفين من نوع جديد، زودهم بالقيم والأخلاق الاستعمارية. وهنا، نبّه الدكتور رشيد إلى أن التعليم ليس هو الثقافة، وأن هناك من الحصول على الثقافة، وأن هناك من المتعلمين باللغة الفرنسية من تمكنوا من الحصول على ثقافة وطنية واسعة.
وقال الباحث إن بيان أول نوفمبر 1954م يعتبر “البذرة الأولى في برنامج ومسار الثورة، حيث كان بمثابة الدليل الذي حدد الهدف وأسلوب العمل بكل دقة ووضوح، وكان موجها لكل فئات الشعب دون تمييز عرقي وديني، كما قرأنا في ثناياه، ولذلك أصبح لزاما على الجزائر أن تتخذ منه مرجعية أساسية في عيش حاضرها، واستشرافها لمستقبلها، ذلك أن هذه الوثيقة ومن وراءها تمكنوا من تخليص الجزائر من أشرس امتحان تعرضت له في تاريخها المعاصر، أما بالنسبة لدارسي تاريخ الثورة الجزائرية بكل أبعادها وتفصيلاتها، فلا يمكنهم فهمها فهما دقيقا ومنصفا ما لم يعتمدوا بالأساس على هذه الوثيقة الخالدة.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19459

العدد 19459

الأربعاء 01 ماي 2024
العدد 19458

العدد 19458

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19457

العدد 19457

الإثنين 29 أفريل 2024
العدد 19456

العدد 19456

الأحد 28 أفريل 2024